أزمة هوية

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أزمة هوية, اليوم الخميس 31 يوليو 2025 09:52 صباحاً


عندما تشاهد فيلما أو مسلسلا وتكون أحد الأدوار لأحد الممثلين هي العدوانية أو مصدر الابتلاء للآخرين حتى يكون هناك حبكة للمشاهد بوجود تحديات ومشاكل يتم صياغة التفاعلات فيها حتى ينتصر في نهاية الأمر الجانب الخيري بانتصار البطل دون موقفه، أو انحسار الشر لصاحب ذلك الدور، كثير من المسلسلات والأفلام ما تشرّق منها وما تغرّب تدور حول ديمومة هذه الأفكار كما أشاهد، وقليل جدا بأن تجد النهايات الخارجة عن الصندوق وعن هذا الإطار القصصي.

هذه الأدوار التمثيلية وإن كانت أدوارا مدفوعة مسبقا، إلا أن الحياة الحقيقية تمتلئ بتلك الأدوار التمثيلية التي تلتمس أقنعة وأدوارا مختلفة لا تعبر عن الهوية الشخصية الحقيقية، وتشعر أن ذلك المسلسل أو خشبة المسرح يقابلها شاشة أو خشبة مسرح حياتية عملاقة نعيش فيها وتتردد فيها أزمة الهوية الشخصية بكثرة الأقنعة والأدوار المزيفة غير المعبرة عن جوهر الإنسان، مما يكون لها أثر سلبي بالغ على المستوى الشخصي أولا وعلى الفاعلية ثانيا.

الحقيقة أعتقد أنه إشكال مركب وعميق وليس بسطحي أقل أثر فيه الاغتراب عن الذات الذي يحصل مرورا بحياة رمادية لا وجهة واضحة فيها فضلا عن اللهاث المبالغ في السعي نحو المصادر الخارجية للسعادة، واتساع رغبة هياج المزيد والبعد التدريجي عن مصادر القوة والإلهام الداخلية. ومختصر أزمة الهوية هو أن تعيش حياتك بعيدا عن حقيقتها وتدور في فلك الأقنعة سواء كانت الاجتماعية، المهنية الدينية، أو الأسرية.

وسياق الأقنعة ورواجه عادة يكون له أسباب جذرية متعددة، منها البرمجة التربوية أو المجتمعية التي تحدث في أوقات زمنية طويلة مفادها بأن رضى الآخرين مقدم على الصدق ورضا الذات، وتراكم هذا الجانب يخلق حالة ترجح الاتباع والتنفيذ حسب معطيات الآخرين على حساب ماذا أريد أنا أو الأفكار الجديدة والأساليب المبتكرة، من الأسباب أيضا الخوف من الآلام والهروب منها إلى الأمام بغية الظفر بالشكل الجميل الآمن والبعد عن الأعماق التي في ظن صاحبها أنها مليئة بالآلام مع أن نطاقات المدى البعيد في تجارب البشر تخبرنا بأن العكس صحيح.

من الأسباب أيضا الصورة الملائكية والمثالية التي ينشدها الإنسان (Perfectionism)، وهي أن تسعى بشكل دائم للكمال، والإشكال هنا عادة أن يكون هناك خوف من ارتكاب الأخطاء وعدم رضا عن النتائج وحتى وإن كانت جيدة بشكل يغلب على صاحبها، فالفراغ الذي يتكون بين الواقع والحالة المثالية يسبب لبس مزيد من الأقنعة والتزييف المدفوع سواء كان بنوايا طيبة أو مختلطة.

الكثير من الباحثين تناولوا بإسهاب موضوع الأصالة (Authenticity) وأثرها الإيجابي على البنية الشخصية، ومفادها بإن الإنسان يكون في أفضل حالاته سواء النفسية أو العاطفية عندما يعيش في انسجام مع قيمه ومعتقداته ومشاعره الحقيقية، بدلا من أن يتصرف بطريقة يتهندم فيها بلبس الأقنعة المختلفة لكي يرضي بها الآخرين، وتدور حول أربعة أركان حسب الباحثين (Kernis -Goldman) من حيث النتائج والأثر، استقرار نفسي لأنه لا يعيش صراعا داخليا، وعلاقات عميقة وقوية لأنها مبنية على الصدق والثقة، واحترام للذات عالٍ لأنه لا يخون قناعاته، وتأثير مجتمعي إيجابي لأن الصدق من طبيعته الأثر الإيجابي المتعدي. بل حتى في علوم القيادة الحديثة ارتقى مفهوم (Authentic leadership) ليكون هو أكثر أنماط القيادة تأثيرا وفعالية في المنظمات حسب التدرجات لمدارس القيادة الحديثة.

الحديث يطول ويطول في هذا الجانب المتعلق بأزمة الهوية والأقنعة والأصالة والتمسك بالقيم والمبادئ وانسجام الجوهر بما يقابله في المظهر، ولكن تأثير العدد المطلوب للكلمات في قالب المقال يفرض علينا بأن نختم: بأن الحياة الطيبة والجميلة لا تكون كذلك إلا من خلال أن تكون حقيقية وبسيطة وصادقة ومليئة بالمعنى، والأقنعة بالتأكيد ستعبث في شكل هذه الحقيقة وتحاول أن تنتزعك من حقل الماهية الحقيقة للذات، وأن تكون أنت أنت إلى حقل أن تكون كما يراد لك أو حسب ما يطلبه الآخرون، تبديد الخوف وتنمية الشجاعة هما الطريق لأن يحاصر الزيف وأن يسيطر الجوهر.
والله أعلم.

fahdabdullahz@

0 تعليق