المجالس الاستشارية الدولية في الجامعات: نموذج جامعة أم القرى وتحولاتها المؤسسية

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المجالس الاستشارية الدولية في الجامعات: نموذج جامعة أم القرى وتحولاتها المؤسسية, اليوم الأحد 27 يوليو 2025 11:37 مساءً

حين تُقدم جامعة سعودية بحجم جامعة أم القرى، وفي بيئة تاريخية ذات بعد ديني، على تشكيل مجلس استشاري دولي يضم نخبة من العلماء والقيادات الفكرية من جامعات مثل أكسفورد، وهارفارد، وبوكوني، ونيوكاسل، فإننا لا نقف أمام خبر بروتوكولي عابر، بل أمام نقلة مفاهيمية في بنية الجامعة عن ذاتها، ووظيفتها، وحدود رؤيتها.

هذه الخطوة تعبر في عمقها عن تبدل في الوعي المؤسسي للجامعات السعودية، حيث لم تعد الجامعة تكتفي بدورها التقليدي كمقدم للبرامج وخادم للتوظيف، بل بدأت تستشرف ذاتها ككيان فكري، وبنية قيمية، وفاعل استراتيجي في زمن لا يقبل الانغلاق ولا يسامح الجمود.

ليست فكرة المجالس الاستشارية الدولية حديثة العهد في العالم الأكاديمي، بل رسختها جامعات النخبة منذ عقود، بوصفها أدوات تفكير جماعي مفتوح، تمكن الجامعة من أن ترى نفسها بعيون الخارج، دون أن تفقد هويتها الخاصة، فجامعة هارفارد مثلا تمتلك أكثر من 15 مجلسا استشاريا دوليا موزعا على كلياتها، فيما تعتمد جامعة بوكوني الإيطالية مجلسا يضم وزراء سابقين، وقادة مؤسسات عالمية، لتقديم رؤى حول التموضع العالمي للمؤسسة، أما جامعة سنغافورة الوطنية فقد أنشأت مجلسا استشاريا دوليا يضم رؤساء جامعات من أمريكا وأوروبا وآسيا، يُستشار في شؤون التوسع الأكاديمي والتكامل البحثي العابر للقارات.

وفي السياق الخليجي، كانت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (KAUST) السباقة إلى هذا النموذج، ولكن بتركيز شديد على البحث العلمي والعلوم التطبيقية، ومع ذلك بقيت هذه النماذج محصورة في الجامعات المتخصصة، ولم تترسخ كممارسة في الجامعات ذات البنية التقليدية متعددة الكليات.

إن ما فعلته جامعة أم القرى مختلف في بُعده ودلالته؛ فهي جامعة تاريخية، ذات رمزية روحية وثقافية في العالم الإسلامي، وذات حمولة تقليدية لا يستهان بها، ومع ذلك اختارت أن تذهب إلى الخيار المركب: أن تبقى متجذرة في بيئتها، وأن تنفتح في الوقت ذاته على العقول العالمية، فهذا المجلس الجديد لا يقتصر على العلماء فقط، بل يضم قيادات مؤسساتية في مجالات ريادة الأعمال، الذكاء الاصطناعي، الصحة العالمية، التعليم، الاقتصاد المعرفي، والحوكمة، مما يشير إلى رغبة حقيقية في التفكير من خارج الصندوق الأكاديمي.

إنها بالفعل خطوة لا تقاس فقط بحجم الأسماء، بل بطبيعة الأسئلة المؤسسية التي يمكن أن تولد من هذا التنوع: كيف نعيد تعريف الوظيفة الجامعية في زمن التحولات المتسارعة؟ هل يفترض أن نخرج موظفين، أم نصنع عقولا قادرة على التحليل والابتكار والتكيف؟ هل ننتج نماذج تعليمية نابعة من واقعنا، أم نعيد تدوير وصفات معرفية غير ملائمة؟ وكيف ننتقل من الاستجابة للضغوط إلى بناء مبادرات تستبق التحديات وتعيد تشكيل الأدوار الجامعية؟

إنه وإذا أدير هذا المجلس بوعي مؤسسي حقيقي، لا شك أن آثاره قد تكون عميقة وبعيدة المدى، ومن بين ما يمكن أن تجنيه الجامعة:

- إعادة توجيه أولويات البحث العلمي بما يتسق مع الاتجاهات العالمية والتحديات المحلية.

- مراجعة شاملة للمناهج لتكون أكثر اتساقا مع معايير التعليم العالي في القرن 21.

- تطوير بيئة الحوكمة من خلال بناء نماذج اتخاذ قرار تشاركية ومستقلة.

- توسيع الشبكات الدولية، وفتح نوافذ التعاون مع الجامعات والمراكز الرائدة.

- تعزيز سمعة الجامعة عالميا، وتقديمها كحالة سعودية ذات صوت أكاديمي مستقل ومتين.

ومن المؤمل أن تكون هذه الخطوة نواة لنموذج جديد في التعليم العالي السعودي، تعيد فيه الجامعات النظر في أسئلتها الأساسية، وتتبنى خطابا مؤسسيا أكثر تواضعا واستشرافا، لكن لا بد أن ندرك أن استنساخ النموذج لا يعني تكرار الشكل، بل التزام بفلسفة جوهرها أن الجامعة لا تكتمل بذاتها، بل تتقوى بالحوار، وتتعلم من العالم لا لتقلده، بل لتتحاور معه من موقع الند لا التابع.

إن ما قامت به جامعة أم القرى لا ينبغي أن يفهم في إطاره الإداري الإجرائي فحسب، بل يُقرأ بوصفه مؤشرا على تحول نوعي في المنظور المؤسسي للجامعة، من نموذج مغلق على ذاته إلى نموذج منفتح على الحوار والتعددية المعرفية، فالجامعة التي تبادر باستدعاء خبرات خارجية نوعية لتقديم رؤى استراتيجية مستقلة، إنما تعبر عن تحول في بنيتها المعرفية والإدارية، واعتراف ضمني بضرورة مراجعة الذات، وإعادة تشكيل أدواتها في ضوء المستجدات العالمية في التعليم العالي.

ومع أن الطريق طويل، والتحديات مؤسسية وثقافية في آن معا، إلا أن هذه الخطوة تصلح أن تكون علامة فارقة في المسار السعودي للتعليم العالي، وتجعل من جامعة أم القرى ليس فقط مؤسسة تعليمية، بل تموضع معرفي جديد في مشهد أكاديمي يتطلع إلى رؤى متجددة ونماذج مؤسسية أكثر كفاءة ومرونة.

أخبار ذات صلة

0 تعليق