نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بهجة الروح... الفرح كقيمة حضارية, اليوم الاثنين 28 يوليو 2025 12:01 صباحاً
ومنذ فجر التاريخ كانت ثقافة الفرح حاضرة في تفاصيل الحياة الأولى لدى المصريين القدماء، وقد ارتبط الفرح بالآلهة والنيل والزراعة، ولم تكن الأعياد مجرد طقوس دينية بل كانت كرنفالات حياة يشارك فيها الجميع وتتفتح فيها الألوان وتنبض فيها الإيقاعات وكأن الطبيعة كلها تحتفل، ومع مرور العصور وتحديدا في العصور الوسطى اتخذ الفرح طابعا دينيا أكثر صرامة، حيث شكلت المناسبات الدينية الكبرى كالأعياد والمهرجانات فرصة لتجديد الفرح الجماعي في لحظات توازن ما بين القداسة والبهجة، ومع تطور المجتمعات الحديثة بدأت ثقافة الفرح تتخذ طابعا أكثر فردية، حيث لم يعد الاحتفال مقتصرا على المناسبات الكبرى بل صار يحتفى بالحياة ذاتها: أعياد الميلاد، حفلات التخرج، النجاحات الشخصية، بل وحتى الإنجازات اليومية، وأما في زمن العولمة والتكنولوجيا فقد تسللت ثقافة الفرح إلى الشاشات، وتحولت كثير من المناسبات إلى مشاركات الكترونية وابتسامات رقمية، حيث باتت الاحتفالات تنقل وتوثق وتشارك عبر منصات التواصل، دون أن تلغي بقاء المظاهر التقليدية للفرح في العديد من الثقافات الحية.
إن المشاركة الاجتماعية في مظاهر الفرح تعد حجر الزاوية في ترسيخ ثقافة البهجة داخل المجتمعات، فالاحتفال الجماعي لا يبعث الفرح فقط بل يعمقه ويجذره في الذاكرة، حيث تتحول المناسبة إلى لحظة وجدانية خالدة تبنى عليها العلاقات وتشد بها الأواصر، ولا يمكن الحديث عن ثقافة الفرح دون الإشارة إلى دور القيم الثقافية والدينية في صياغتها، فكل مجتمع يرسم فرحه بلونه الخاص مستمدا من دينه وتقاليده، مما يجعل الفرح لوحة متعددة الألوان تتنوع بتنوع الأمم وتاريخها، كما أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية تشكل بيئة خصبة أو مجدبة للفرح، فحين يزدهر الاقتصاد وتتوفر فرص العمل ويعيش الإنسان في كنف الكرامة، يصبح أكثر قدرة على الاحتفال بل يرى في الفرح قيمة مشروعة لا ترفا مؤجلا.
ورغم الصورة النمطية التي يروج لها البعض، فإن الإسلام دين يفيض بالبهجة لا يخاصم الفرح بل يحتضنه ويحث عليه، شرط أن يكون منضبطا بقيم الاعتدال والاحترام، فالفرح في الإسلام ليس حالة طائشة بل ثمرة طمأنينة داخلية نابعة من الرضا والقرب من الله، وقال تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذٰلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} [يونس: 58]، وهذه دعوة صريحة إلى الفرح لا بالمال ولا بالمظاهر، بل بما هو أرقى وأبقى: الفضل والرحمة الإلهية، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يبدي فرحا كبيرا بقدوم شهر رمضان ويبشر أصحابه بقدومه، كما كان يظهر السعادة بالعيدين، ويحث على الاحتفال والابتهاج في إطار من الوقار والجمال، ويقول عليه الصلاة والسلام "للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه" (صحيح الترمذي)، وهكذا يتجلى الفرح في الإسلام كقيمة روحية وسلوكية لا مجرد انفعال عابر، هو فرح نابع من المعنى ومتصل بالإحسان وليس فرحا زائفا تذكيه المبالغات أو تطفئه التكاليف الباهظة.
إن نشر ثقافة الفرح المستدامة يعني أن نؤسس لجمال دائم في تفاصيل الحياة اليومية، لا يعتمد على المناسبات فقط بل ينبع من القناعة والرضا والعلاقات الإيجابية ومن البيئة الاجتماعية والاقتصادية التي تحفز الإنسان ليكون سعيدا ويسعد من حوله، وما أحوج العالم اليوم إلى هذا النوع من الفرح: فرح حقيقي عميق غير مصطنع ولا مؤقت، فرح يبني ويرمم ويواسي ويلهم، يعبر عن الإنسان في أنقى حالاته في لحظات انسجامه مع الكون ومع ذاته ومع خالقه.
0 تعليق