العالم بعد غزة.. تأملات في التاريخ والضمير الإنساني

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يشهد العالم مرحلة تتزايد فيها الأزمات وتتعمّق فيها الانقسامات بين الشعوب، وتبرز الحاجة إلى مراجعة شاملة للضمير الإنساني، وإلى جهد دولي يعيد التوازن لقضية فلسطين ويعزّز ثقافة السلام. فاستمرار الصراعات يقلّل من فرص الاستقرار، ويؤكد أهمية الحوار بوصفه وسيلة لترسيخ العدالة وصون الكرامة الإنسانية.
في هذا السياق يأتي كتاب «العالَم بعد غزّة: تاريخ قصير» للكاتب والمفكر الهندي بانكاج ميشرا، ليقدّم قراءة فكرية تبحث في جذور المأساة الفلسطينية من منظورٍ عالمي.
يقدّم ميشرا عملاً فكرياً يجمع بين التحليل التاريخي والتأمل الإنساني، فيربط بين الإرث الاستعماري الغربي والواقع السياسي في الشرق الأوسط. ويرى أن المأساة الفلسطينية تعبّر عن خللٍ عميق في الوعي العالمي، وأن الحرب في غزّة تمثل نتيجة لمسارٍ طويل من بناء نظامٍ غير متوازن يرسّخ التراتبية بين الشعوب. ويعتبر أن جذور القضية لا تقف عند حدود السياسة، بل تمتد إلى بنية فكرية تشكّل نظرة العالم إلى القوة والعدالة، وتؤثر في طريقة فهمه لمعنى الحرية والكرامة.
يستعيد الكاتب في هذا العمل الصادر عن دار بنغوين برس في فبراير 2025، تجربته الشخصية خلال زيارته للضفة الغربية عام 2008، حيث عاش تفاصيل الحياة اليومية وشاهد أثر القيود في الناس. تلك التجربة فتحت أمامه أفقاً جديداً في فهم الحرية الإنسانية، ورأى في معاناة الفلسطينيين صورة من التجربة الاستعمارية التي عاشتها أمم أخرى. ومن هذا الوعي الجديد قدّم تأملاته حول العدالة باعتبارها قيمة تُبنى على الفهم المتبادل والاعتراف بالآخر.
يتناول ميشرا تطورات الصراع في غزّة، فيصف هجوم السابع من أكتوبر الذي نفذته حركة حماس باعتباره لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة، ثم يتأمل في الردّ العسكري الواسع الذي تبع ذلك الحدث وما خلّفه من آثار إنسانية عميقة. ويرى أن العنف المتبادل يفتح مساحات أوسع للخوف ويزيد من حدّة الانقسام، وأن بناء السلام يحتاج إلى شجاعة فكرية وإرادة سياسية تضع الإنسان في صلب المعادلة.
ويمتد تحليل الكاتب إلى المحطات الكبرى في التاريخ الحديث، من المحرقة (الشواه) إلى محاكمة أدولف أيخمان عام 1961، فيوضح كيف أسهمت تلك الأحداث في تشكيل الوعي العالمي بفكرة الأمن والضحية، وكيف أعادت صياغة العلاقة بين التاريخ الأوروبي وتأسيس دولة إسرائيل. ويرى أن مأساة الفلسطينيين أصبحت مرآة تكشف طبيعة النظام الدولي واتجاهاته، وأن أحداث غزّة أعادت إلى الواجهة أسئلة الإنسان الكبرى حول العدل والمسؤولية والتعايش.
يصف ميشرا في سرده مشاهد الحرب وآثارها في الذاكرة الجماعية، ومنها صورة الأب الذي يحمل جثمان ابنه في رفح، بوصفها رمزاً للألم الإنساني المشترك. ويشير إلى أن الإنسان المعاصر أصبح شاهداً مباشراً على ما يسميه «الشرّ السياسي»، حيث تصل صور الدمار والمعاناة إلى كل بيت، فتترك أثراً نفسياً يتجاوز الحدود. ويعرض مشاهد متكررة من انقطاع الإمدادات، ودمار المدارس والمستشفيات ودور العبادة، مؤكداً أن هذه الوقائع تزرع في الذاكرة الإنسانية جرحاً مفتوحاً وتعيد صياغة الوعي بأهمية العدالة. ومن خلال هذا المسار الفكري، يوجّه ميشرا دعوة إلى استعادة البعد الأخلاقي في التفكير السياسي، وإلى بناء نظام دولي يقوم على المساواة والاحترام المتبادل، ويدعو إلى رؤية جديدة للعالم بعد غزّة، رؤية تضع الإنسان في مركز الاهتمام وتُعلي من قيمة الحياة المشتركة.